رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
محمود عبد الحليم
رئيس التحرير التنفيذي
فريد همودى
ads

رصيف العجوز أعظم من عرش الإمبراطور

الجمعة 12/فبراير/2021 - 06:50 م
الحياة اليوم
عاطف عبد الفتاح صبيح
طباعة


أمام محطة مصر بالإسكندرية رأيت سيدة عجوزًا قد أرهقها الزمن تفترش الرصيف وبجوارها كرتونة بها قطعتا قماش باليتان وعلبة بلاستيك فارغة.. أشفقت لحالها، فأعطيتها نقودًا، فرفضت أن تأخذها.. قلت لها: أنا مثل ابنك فخذى.

قالت: لا.. الحمد لله أنا مش عاوزة فلوس.

وأمام رفضها العنيد أعدت النقود إلى جيبى، وقلت لها: أجيب لك تاكلى؟ تحبى تاكلى إيه؟

قالت: أنا الحمد لله شبعانة.

قلت: طاب إيه رأيك؟ حاجة ساقعة فى الحر ده؟

قالت: مش عاوزة حاجة.

جلست بجوارها على الرصيف، وقلت لها: أنا تحت أمرك.. تؤمرينى بإيه؟

قالت: الأمر لله.

قلت: يا ست الكل.. أنا عاوز أخدمك بأى حاجة.. فيه حد مضايقك؟ فيه أى حاجة أنت محتاجاها؟

قالت: ولا حاجة.. أنا كده مبسوطة، ومش عاوزة أى حاجة من بشر.

وحتى ألحق قطارى اضطررت أن أتركها يائسًا.

تذكرت هذا الموقف وأنا أتعجب من زميلة لا تكف عن بوس إيدها وش وضهر على فضل الله ونعمه فى محاولة لإقناع نفسها بالرضا.

قال لى صديقى حسين ذات مرة: مشكلتها أن الله أعطاها كل شىء إلا شيئًا واحدًا.. الرضا؛  لذا مهما أخذت لن تشعر بقيمة الأشياء.

وتنهد حسين، وقال: لو عندى عشر ما عندها لكنت مَلِك نفسى، لكن سبحان الله! أرزاق!

الرضا والقناعة نعمتان لا يعطيهما الله إلا لمن أحب ويستحق. وزميلتنا على ما أعطاها الله من مال وشهرة لن تذوق طعم الرضا أبدّا؛ لذا فهى تخوض صراعات دائمة للوصول إلى هدف، فإذا ما حققته لم تهدأ إلا وتخوض فى صراعات أخرى جديدة لهدف أعلى. وهكذا ستظل فى دوامة الصراعات للوصول إلى أهداف لا أفق ولا حدود لها.

هناك قصة من كلاسيكيات الأدب أن ملكًا قرر أن يخوض حروبًا لاحتلال ممالك أخرى، ومن نعمة الله عليه أن كان لديه حكيم، فسأله: لماذا تريد ان تحارب؟

فقال: لكى أفتح ممالك جديدة.

سأله: وبعد أن تفتحها؟

أجاب: سأصبح إمبراطورًا عليها.

سأله: وبعد أن تصبح إمبراطورًا؟

قال: سأصبح إمبراطورًا عظيمًا، وأجلس على عرشى هذا سعيدًا بحكم كل هذه الممالك.

فقال الحكيم: ولماذا لا تجلس على عرشك سعيدًا بحكم مملكتك وتوفر هذا الوقت الطويل والحروب الدامية؟

هذه المرأة العجوز كانت أحكم من الحكيم بالفطرة، فجلست متربعة على عرشها على الرصيف أمام محطة مصر بالإسكندرية، ولديها سعادة وقناعة أعظم من سعادة وقناعة الملك ومن طموح الزميلة الشره لأخذ كل شىء.

ليس الطموح قناعًا للجشع البشرى فى تحقيق آمال، ولا الرضا مبررًا للخنوع والاستسلام. إننا نعيش فى هذه الحياة لتحقيق طموحات كثيرة، لكن هذه الطموحات إذا لم تثمر رضا، فإنها تتحول إلى مرض نفسى.. نهم لا يشبع، وجشع واستذئاب يحول الحياة بصراعاته المتنكرة فى الطموح إلى جحيم يحرق الأخضر واليابس، ويفسر كل شىء على الوجه السيئ. وبئس الحياة تلك! لذا لن تشعر زميلتنا بالرضا حتى لو أصبح العالم كله ملكها وطوع أمرها، ولن تنال واحدًا على ألف من السعادة التى تشعر بها السيدة العجوز التى ليس لها من حطام الدنيا إلا كرتونة بها قطع قماش بالية.

******************************

مقالات أخرى للكاتب

ابني الذي لم أنجبه

لولاها ما كانت الحياة حياة

المؤمن عزيز وسيد الكون

تخليق كورونا: الجينوم| كريج فينتر| فرانسيس كولينز| بيل جيتس| هوبكنز

Me before you.. كيف ضفَّرَ المؤلف المنطق والوجدان لنهاية حتمية؟

هزار ومقالب.. الإسلام عدو الكآبة وثقل الدم

كيف دلع الإسلام المرأة

كائن منقرض اسمه «الذوق»

ولكنكم تستعجلون

                                           
ads
ads
ads