رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
محمود عبد الحليم
رئيس التحرير التنفيذي
فريد همودى
ads

Me before you.. كيف ضفَّرَ المؤلف المنطق والوجدان لنهاية حتمية؟

الأربعاء 06/يناير/2021 - 09:00 م
Me before you
Me before you
عاطف عبد الفتاح صبيح
طباعة


رغم أني لم أكتب مقالات في الفن منذ 2009، ولكن ما حدث بالأمس استفزَّ قلمي، بعد مشاهدة فيلم لم يكن ليلفت انتباهي، لولا أني جلست مع بناتي من باب التواصل الاجتماعي المنزلي، وتَزامَنَ ذلك مع بدء عرض فيلم بعنوان " Me before you"، والذي كانت بناتي تنتظره بشوق.

الفيلم ليس به إبهار هوليود بالأكشن؛ لأنه يدير أكشن داخليًّا عميقًا في أغوار النفس البشرية، رغم أن إطار العمل عقلاني، إلا أن المؤلف "جوجو مويس" بعبقريةٍ ضَفَّرَ الوجدان في المنطق؛ لينتهي بحقيقة لا مفر منها.. الحب المحكوم عليه بالموت.. وهنا يتضح أن التركيز أهم ما ميَّز العمل.. التركيز في الرسالة دون أي تفرُّع مهما كان مثيرًا.

بطل الفيلم "ويل ترينور" يتم تقديمه قبل بدء الأحداث، في الأكشن الوحيد بالفيلم، وهو حادثة لا تستغرق ثوانٍ؛ لتظلم الشاشة بعدها، ويبدأ تتر المقدمة، تاركًا صدمة للمشاهد، تؤهله نفسيًّا لاستقبال العمل العقلاني بوجدانه.

بعد إظلام الشاشة تضيء على وجه فتاة لذيذة "لويزا كلارك".. طفلة في السادسة والعشرين من عمرها.. مرحة.. تعبيرات وجهها كفيلة بأن تجعلك تتابع الفيلم، حتى لو لم يكن يعجبك.. يبدأ تقديمها للمشاهدين باستغناء المقهى الذي تعمل به عنها، ثم تصطحبنا في عودتها لبيتها؛ لنعرف أن أهلها من الكادحين، ونشعر بمدى الحسرة عند سماعهم بالاستغناء عنها؛ فهم ينتظرون ما تتحصل عليه ابنتهم من عملها.

تبحث المسكينة عن أي عمل، حتى تضطر إلى قبول عمل لستة أشهر فقط.. رعاية رجل مصاب بشلل رباعي.. مُدمَّر نفسيًّا، ومُدمِّر لكل من يرميه حظُّه الأسود في طريقه، أو تلمحه عيناه، فما بالك و"لويزا" ستكون ملازمة لها طوال اليوم؟!

تستعير الفتاة جيبة أمها القديمة "التايكة"؛ لتذهب بلبس "عليه القيمة"، حيث إن "ويل" من أسرة أرستقراطية، تعيش في قلعة أثرية، وهذا لمن لا يعلم شدة الثراء، كما أنه كثقافة بصرية يعطي جوًّا قاتمًا للفيلم. تفرح الفتاة بالوظيفة القاتلة.. تفرح لأنها ستحصل على المال الذي يُنجِّي أهلها من الجوع.

مقابلة أم الشاب لم تكن أشدَّ رعبًا من نهش الجوع والفاقة، خاصة أنها ستقبض في عملها أموالاً لم ترَها عيناها من قبل.

هنا يظهر البطل "ويل" داخل إطار الفيلم.. في أول لقاء مع البطلة "لويزا".. شابٌّ فَظٌّ كاره لنفسه وللحياة.. يسخر من تلك الفتاة المنحدرة من قاع المجتمع.. يسخر ببشاعة.. تتحمل.. يبهدلها بشراسة.. تتحمل .. يجد في شكلها ولبسها مادة لسلخ نفسيتها.. تتحمل، وتتحمل؛ من أجل أهلها المساكين.

يتعجَّب، ويُعجَب بتحملها وإصرارها على ألا تُضيِّع فرصة العمل التي تمثل لها طوق النجاة.

وما إن تتسلَّم العمل، حتى ينتقل منظور الكاميرا إلى عيني "ويل".. نتابع من خلالها رؤيته للأحداث والتحولات.. الفتاة المغيبة عن زمنها وسنها تتعامل بتلقائية عجيبة.. تستقبل الحياة بسعادة رغم ما تعانيها وأهلها من ضنك.. اهتماماتها أبسط من البساطة.. يدرك أنه هو المغيب..  تبدأ الفتاة بسذاجتها وتلقائيتها في إخراجه من مغارته القاتمة الناقمة.. لتبصر عيناه الحياة بمنظور أرحب من القلعة المحبوسين داخلها، وأبسط من تعقيداته النفسية.

يكتشف أنها فتاة خالية من شوائب البشر.. تضحك وتبكي لأتفه الأسباب.. لديها قناعة وسماحة لم يجدهما في عالمه.. ولديها قلب يتألم لألمه.. لم يجد هذا الشعور في أبيه ولا أمه.

هي ليست ممرضة.. هي إنسانة راقية.. يبدأ في الضحك لأول مرة منذ الحادثة.. يخرج معها في رحلات وحفلات.. الحياة يمكن أن نعيشها حتى لو كنا فاقدين للحركة.. حتى الرقص يمكن أن نمارسه.. تقعد على كرسيه المتحرك، وتراقصه غير عابئة بنظرات الجميع.

عادَ الشابَ الوسيمَ المُنعَّمَ.. الشابَ الذي له عقل يفكر وقلب يشعر ويحيا.. و"يحب"، وهنا الأزمة.. فبعد كمية المشاعر الجياشة التي أبكَتْنا، يأتي البكاء من زاوية أخرى.. زاوية الحقيقة العقلية التي لا مفر منها، والنابعة من الوجدان.. تبدأ بمصارحته لها بسرٍّ هي تعرفه.. اتفاقية بينه وبين مؤسسة علاجية بسويسرا؛ لتضمن له موتًا رحيمًا بعد ستة أشهر. ولأنه يحبها؛ فلن يتراجع عن قراره.. ولأنه يعشقها؛ لن يقبل أن يكون سبب عذابها طوال حياتها بالزواج منه.

الإبداع هنا من الكاتب، الذي استطاع أن يُضفِّر المشاعر بالعقل، فأجرى الأحداث دراميًّا بما يتطلبه العمل، كمقادير الطعام بلا إفراط ولا تفريط.

في المواقف الوجدانية استخدم المشاعر، وأراق الدموع من قلوب المشاهدين في مواقفها بالقدر الذي تتطلبه الدراما، ولم يقع فيما يقع فيه كثيرون من عظماء الكُتَّاب، بإعطاء مساحة شاسعة لمشهد موت البطل أمام عيني حبيبته وبكائها الذي سيقطع قلوبنا، ولكنه أراد أن يتعامل مع الموقف كما هو وكيفما هو وبما هو يستحقُّه، فهي قضية محسومة، يحكمها العقل والمنطق، وحتى الوجدان يقضي بأن يُضحِّي، ولا يعذِّب من أحبُّ. وميزة هذه المعالجة أنها هنا ليست فكرة مثالية، بل واقعية ورومانسية في ذات الوقت.

لذا لم يختم العمل بالنهاية التي ينتظرها ويحبُّها جميع المشاهدين، بزواجهما الذي أعاد لهما بهجة الحياة؛ لأن المحب لن يقبل بتعذيب حبيبته، بأن تعيش معه ليل نهار في عذاب دائم لمتابعة حالته، فآثر أن يرحل في هدوء دون علمها؛ حتى لا تقتلها تلك اللحظة.. رحل، ولكن هذه المرة لم يرحل ناقمًا، وإنما مُضحِّيًا من أجل حبيبته.. رحل تاركًا لها رقم حسابه الذي سيحلُّ أزمتها وأزمة أهلها، وذكرى لعشق مذاق حلاوته ومرارته أرحم من العيش في واقع من جحيم، تاركًا لها رسالة لكل البشر: أن التفاصيل التافهة والسذاجة الطفولية والوضوح الشفاف هي التي ألانت قلب الشاب الصخري إلى عاشق ولهان.، مختتمًا  بتوصيتها أن تفرح بالشراب الأصفر المخطط الطويل، الذي كان مثار سخرية منها.

هي قصة الواقع الذي لا مفر من التسليم به.. Me before you.

                                           
ads
ads
ads