رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
محمود عبد الحليم
رئيس التحرير التنفيذي
فريد همودى
ads

ابني الذي لم أنجبه

الجمعة 05/فبراير/2021 - 02:37 م
الحياة اليوم
عاطف عبد الفتاح صبيح
طباعة


أول لقاء جمعني به كان من خلال تقرير في بداية تسلُّمي عملاً جديدًا، وما إن قرأت التقرير، حتى طلبتُ أن أتكلم مع كاتبه؛ لأتأكد هل هو "لَبَط" وسارقه، أم أنه كتابتُه حقًّا، وإن كتابته فهل فعله عن قصد، أم حدث معه بالصدفة؛ فلم يقابلني تقرير بهذه المهنية إلا في الصحف الأجنبية، وما زاد إصراري على هذا التصرف أن التقرير، رغم أنه مترجم، إلا أن كاتبه تَصرَّفَ فيه بحرفية يندر أن تجدها؛ لذا شككتُ في الأمر.. وفي وسطنا الصحفي يكون الأصل في التعامل هو الشك حتى يثبت اليقين.. فالمنهج الديكارتي هو عملة الصحافة النظيفة بمصر؛ لذا تحفَّزْتُ له، وطلبتُ الجلوس معه، وفي نيتي التعامل معه بمنتهى القسوة؛ لأن الأخلاقية المهنية لا تَسامُحَ فيها.

ولما حضر، وجدتُه في ريعان الشباب، ملامحه تُشِعُّ إنسانًا "متربِّي كويس"، بادرتُه بقولي: فين التقرير اللي انت ترجمته؟

ففتح لي رابطًا لتقرير عبري عن نتينياهو من 1500 كلمة، بينما ما كتبه لا يتجاوز الـ 400 كلمة.. تصفَّحْتُ التقرير العبريَّ، ثم سألته: ليه اختصرت هنا؟ فين أمانة النقل؟

رد بأدب جَمٍّ: أنا باعمل عرض صحفي لتقرير، مش باترجمه.

وتابعتُ أسئلتي التفصيلية الدقيقة؛ لحاجة في نفوس يعقوب، وكانت إجاباته قوية وممنهجة وراسخة، فسألته: إنت منين؟

أجاب: من سوهاج.

فنظرت إليه بملء وجهي أتأمَّله بابتسامة رايقة، بينما تكسرت نظرات عينيه كعذراء في خدرها، قلتُ: أول مرة أشوف صحفي عالمي من سوهاج.

فاحمرَّ وجهه، رغم سماره، بشكل أدهشني.

وانتهى الأمر بالنسبة لي، وواصلتُ عملي، ولم أكن أدري أن كلامي وقع عنده مواقع عجيبة.

بعد أيام قلائل عهدوا إليَّ بعمل شيفت مبيت، وكان عدد الصحفيين أكثر من 120، منهم ما لا يقل عن 5 محرري ديسك في الشيفت الواحد، غير مسئولي النشر (وكنت واحدًا منهم) ورؤساء الأقسام وووو، وكانت مهمتي في المبيت أن أقوم بأدوارهم؛ لأن رئيس التحرير السابق جرَّف الجريدة من المهنيين. وقبلتُ التحدي.. لا راحات.. لا إجازات.. لا أمراض.. لا ظروف، وتزامن هذا مع أحداث ما بعد 25 يناير، وما أدراك ما بعد 25 يناير!

فوجِئْتُ وأنا أسلِّم الشيفت الساعة 9 بذلك الشاب يأتى قبل موعده بساعة، ليناولني سندويتش طعمية، وهو يقول: عارف إنك بتحب الطعمية.

ووجدته بعد ساعات عمله الشاقة (من الساعة 9) يقضي معي شيفت المبيت، فلما سألته: ليه بتتعب نفسك، وتشتغل 24 ساعة؟ قال: أول ما شُفْتَك شُفْت والدي.. سيبك من تعبي، كفاية إني معاك.

ومن يومها توثقت علاقتنا، وكنت كلما حكيت له عن شيء، أجده حدث لوالده، حتى الرؤى والأمور الباطنية.

وكان أي كلام أقوله، وأي تصرف، حتى لو بعصبية، يستقبله بسعادة عجيبة، حتى "إفيهاتي السخيفة" كانت تفطَّسه من الضحك!

لما استقرت جريدة "البديل"، وتصدرت الصحف المصرية والمواقع والقنوات الفضائية في ذلك الوقت، عدتُ بعد 3 سنوات، إلى العمل الصباحي، فضبَّط راحاتِه معي، وكنا متلازمين.. نأتي معًا، ونرجع معًا. وأثناء رجوعنا كنت أتقمص دور الصعيدي اللي ما شافش دنيا، وعامل نفسه محتكر المعرفة وكل الناس ما بتفهمش، وكان كثيرون يحاولون أن يُفهموني، وأنا مصرٌّ على أنهم جهلاء، فكانوا يشفقون على مدى تحمُّل الشاب لي، حتى حدث موقف جعلني أحرَّم، حيث لحق بنا أحد الشباب في محطة محمد نجيب بعد أن خرجنا؛ ليقنعني أنها ليست محطة المعادي. من يومها قررت أن أكفَّ عن هذا المزاح.

وفي إحدى المرات أخبرني أن أمه حزينة جدًّا، ونفسها تشيل له ابن، وصارحني أنه منذ وفاة أبيه وهو ما لوش نفس في أي حاجة، فقلت له: يعني مش عايزني يكون لي حفيد منك؟

وفوجِئَت أمه به وهو يوافق على اقتراحها، وبالفعل تم الزواج، وأنجب ابنه إياد، وكنت أناديه بـ "أبو عمر"، فلم يحرجني  مرة، ويُعدِّل لي الاسم.

أثناء عملنا كانت له مواقف رجولة، حيث تصدى لبعض التسريبات التي كان يحاول البعض تمريرها من خلال موقع الجريدة.

أما عن مهنيته فكان الوحيد بالموقع، الذي يرفع شغله وشغل محرري قسم "عربي ودولي" دون أن يمر على الديسك، حتى أتى زميل جديد، وتولى رئاسة قسم الديسك، وأثار القضية، وليته ما فعل، فكان التقرير الذي يأتي من "عربي ودولي" يصيب محرري الديسك بـ "التبليم والتتنيح"، بينما يصيب صديقي وابني بالسخسخة من الضحك، وأخيرًا عرفوا أن الله حق.

وذات مرة تدخل أحد الجهابذة بكتابة تقرير كاد يتسبب في أزمة مع دولة عربية، ومن يومها قرروا ألا  يقرب أحد من "عربي ودولي".

كانت الفترة التي عملنا بنا معًا عصيبة ومتشعبة وملعبكة على مصر وبعض الدول العربية، بدءًا من 2012 وحتى 2015، والموقع معروف ومتابَع من دول كثيرة، وأي حرف يُنشَر مؤثر بالإيجاب أو السلب.. تسلمت عملي وأمامي كمية أحداث دامية اتدلقت مرة واحدة على مصر والمصريين، وطوال تلك الفترات وهو يمسك بزمام الأمور، حتى صارت الجريدة والموقع الصحافة الوحيدة وقتها التي لم تتلوَّن، والوحيدة الموضوعية، التي التزمت المصداقية فيما تكتب، والأمانة فيما تنقل، والتوعية للرأي العام، فلم تكن "بين بين"، وإنما محايدة، والفرق هنا شاسع رغم دقته، ولم تنتهج "معاك معاك عليك عليك"، وإنما انتهجت خطًّا واحدًا ثابتًا، وهو أننا صحفيون لا سياسيون.

وكمثال للشفافية والوضوح أذكر مثلاً أننا ظللنا فترة طويلة لا نتطرق إلى سوريا، حتى تتضح الرؤية.

وبعد انتهاء "البديل" بإغلاقها على حين غفلة من أهلها، أخذني معه إلى قناة "مباشر قطر" المعارضة للنظام  وقتها، فعشنا فيها أجمل لحظاتنا، وفي يوم سألني عن سكرات الموت، وهل هي تكفير لذنوب، أم تعذيب وانتقام من الله لإنسان فرَّط في حقه؟

أجبتُه: الاتنين؛ لأن دي زي الرؤيا حسب حالة الإنسان مع ربنا، لكن فيه ناس روحهم بتخرج زي النسمة.

وكان هذا آخر حوار بيننا، بعده كان مشغولاً بالذهاب إلى ستوديو القناة، حيث حمَّلوه بكل شيء في البرامج والنشرات والأفلام الوثائقية؛ لكفاءته التي لم يجدوا من يسدُّ مكانه فيها.

هاتفتُه: يا أمير عايز أشوفك.

قال: والله انت عارف يا والدي شغل الاستوديو. إن شاء الله بكرة هارجع من الاستوديو عليك، ونروَّح سوا، حتى لو هارجع الفجر. ما تمشيش.

وجاء بكرة، ولم يرجع، فقد جاءتني رسالة على الواتس أن ابني أمير أثناء ذهابه للاستوديو اتصل بأخيه، وما إن وصل إليه على "الدائري"، حتى وضع رأسه على صدره، وصعدت روحه إلى بارئها.


أمير عبد العزيز.. تاريخ الوفاة الأحد 8 ديسمبر 2019، 11 ربيع الآخر 1441


*****************************************

مقالات أخرى للكاتب

لولاها ما كانت الحياة حياة

المؤمن عزيز وسيد الكون

تخليق كورونا: الجينوم| كريج فينتر| فرانسيس كولينز| بيل جيتس| هوبكنز

Me before you.. كيف ضفَّرَ المؤلف المنطق والوجدان لنهاية حتمية؟

هزار ومقالب.. الإسلام عدو الكآبة وثقل الدم

كيف دلع الإسلام المرأة

كائن منقرض اسمه «الذوق»

ولكنكم تستعجلون

 

                                           
ads
ads
ads